
علي حيدرة أبه زين
توصّلت الشمس كبد السماء، وأخذ الغبار الكثيف يُغطي كل الأنحاء، وكأنما الفصل المعاصر خليط لثلاثة فصول بانعدام فصل رابع.
الهواء الصحراوي يَدخل في كل منفذ وجوف، وحينما يعانق الأجساد يَخرج خاملا، بما لها من عجف واستسلام، أشبه ما تكون بالقناة المجوفة.
بدت الشمس أكثر توهجا من سابقتها، وكأنها وصلت لأقصى ضراوتها ، وفي أثرها هبت نسمة غريبة، حاملة معها شظايا من الماضي اللصيق، جعلته يتهجّم على أقرب ديك منه، ملامحه تفيد تراكم الحزن في خافقه المعتم، لكن ما تفعله يداه أعظم.
أخذ يشد في الريش بلا رحمة، مصاحبا لذلك عبارات غريبة، يردد.. واصل ترديدها، وكأنه تذكر غدر الزمان وأشواكه الحادة، أو صيحة الجنين الذي يستظل في بقعة لم تتطرق يوما لشيء يسمى حنان.
ظل الجميع صامتون محملقين، بفرجة توحي للابتعاد عن الحدث، مع أنهم لم يأخذوا بالا بما يهلوس.
انتهى من النزاع الحاد، وأخذ يلوح بريشة، ربما كانت آخر ريشة تحيط بالديك، كانت كآخر قطرة لظمآن يجزه لهيب العطش.
تَبصّر يمينا وشمالا، كأنه يبحث عن شيء ما، بدت في وجنتيه أساور السكينة، أخذ بعدها سكّينته المعزولة للصدأ … أفتق جرحا صغيرا في كفه الأيسر، قطرات غير مألوفة، تذكر الأرض القاحلة بروعة ملامسة المطر، ومع انسجامها مع السطح، لا تكاد تُمس مِن قبل جزيئات التربة، كما لو أنها سم زعاف يبيد كل متحدث.
الأرض تتحدث غالبا، وتحاول الكشف عن أسرارها، وقد تدمع، لها مالها من مشاعر تخصها.. ولكن مَن غير ربها يسمع!
لم يشغل باله في البحث عن حِبر يُنهي به مبتغاه؛ إنما اكتفى بما يملك في جسمه من دماء كفيلة بتأليف مكتبة كاملة.
انتهى أخيرا من كتابة دستوره الجديد، كان خاليا من أي رأي، وما من تعديل يذكر، قانون وضع ليطبق، ولا توجد فرصة لا لمناقشة ولا لاعتراض، وهل هناك وجود لمعترض؟
غاب عن عقليته شيء يسمى مجلس الشورى، إنما هو أمر يصدر منه ويقرأ، على مسامع الجمهور، بواسطة ساعده الأيمن، والذي كان يدعى آنذاك بالخنزير الملثّم؛ من شدة اعتياده على القزازة وحب البرك.
نادى الملثّم بصوته الذي كان غالبا ما يتجاوز صداه حدود المستعمرات، و أسمع المواطنين باختلاف طبقاتهم من غني وفقير، ليبلغهم بالأوامر التي غالبا ما تنص على قتل كل من
يخرج على النظام
و من يدعي الصلاح
والقادة الداعمين للثوار
وجَعْلهم عبرة للقداة.
من الغريب أن يعتاد الحرس والقادة البقاء معه بطبعه المنعزل، وجسمه الممتلئ بالبراغيث، لاعتياده المتواصل، في المكوث مع كلابه المشردة.
شيّع في حكايات الأجداد، أنه أسس دولته بجمع لصوص البلدان، وسميت مملكته بالقارة الشقراء نسبة للقبه المشهور وهو: اللحية الشقراء، وبالطبع كأي متسلط لن يعارض هذه الفكرة، إذ عرف المتسلطّون بحبهم للفخر، و نعت بلدانهم بأسمائهم . لكن ما يثير الغرابة أن اسمه الحقيقي لم يتداول في صحائف المدونين ولا المؤرخين، ولا حتى في المذكرات والمدونات القديمة، التي نهشت منها الأرْدَة وما زالت تنهش فيها.
فشيّع لقبه في كل المستعمرات والمستوطنات باسمه ذاك.
اشتهرت الشقراء بكثرة حصاد الحشيش، ولا يخلو موطئ فيها من الرماد، كل السكان لا يستغنون عن هذا الشيء الخبيث، حتى أنه ظل يسري في حيطان البيوت الطينية وفي المدراس، و في القبور، حتى في الأطفال، الذين لم تقبّل الأرض باطن أقدامهم.
وعن الموارد، فلم تكن أمرا يستوجب الحساب عليه، تستورد من البلدان المجاورة سواء بالقوة
طوعاً، أوخوفا من المجازر التي كانت تحصل جراء الأبية.
وبهذا ازدهرت النفوذ، وأخذ اللحية مقعده من الثروات المنهوبة.
وما أغرب أن يكسب المرء عنوة، دون الإحالة إلى البذل، وإن كان بنظرهم أن التعرض للبذل مقابل الكسب، ليس إلا ضعف واهن.
الهدوء التام يحيط بمقره المظلم في الصباح، حيث توقظه حرارة الشمس ملامسة بشرته السمراء المتقشّرة، بما مر لها من طول الدهر، وبعيون منحرفة عن سواها، كطلقة توشك القبول على فوحة البندقية ، يفتح صنبور المياه، يمضي لفترة طويلة، وهو يرى شعره الأبيض الأجعد مختلطا بقليل من السواد، ولحيته الشقراء مشوّبة ببقايا طعام، تتغذى عليه أصناف من حشرات منسية الشكل.
يمضي طول يومه في استعراض لحيته التي سترت نحافة وجهه، والتي بدت مرقدا مناسبا لتفشي البؤس، سامعا ومستمتعا بالمديح المزيف، يتوالى في المدارس ويردد على لسان الأطفال بثوراته البطولية وعدله وإنصافه بين الشعوب وكل المستعمرات.
يقابل المرآة يظل يبصرها، يرى فيها الحقائق المغمضة، وتلكم المآسي والأحزان، مستترة في قضبان الشراسة والضراوة والجبروت والحدة.
لا يمضي الدهر طويلا حتى يصارحك بما تخشى سماعه، يفشي عليك وابلا من أمر قد تظنه انقضى، حتى تدرك أنك سلطت على نفسك نفسك.
وأن كل من حاربتهم لم يكونوا سوى مرايا تعكس عدوك الأعظم وهو أنت، فتعجز وقتها عن البوح والرّد، وما أمرّ
أن يتوقف سعيك وقت إدراك غايتك.
مع حلول المساء يفتح نوافذ قبوه، مستنشقا لرائحة البارود المتطايرة من المؤامرات الفاشلة، يتلذذ برؤية الدموع الهارمة على الجثث، يَسقي منها نفسه لذة السلطة … وإن كان يدري بدنو أجله.
اتصف بالغباء والدهاء في سياسته الناجحة، حيث سيطر على الجوار بلا أي جيش يذكر، بل إنما بمجموعة من الحثالة، أمام الممالك والجيوش الضارية، وكل ذلك بفضل الحنكة والخبرة التي تلقاها من طول الشيب المنهك.
ما يميزه عن غيره من الطغاة هو انصافه في ظلمه، يسلب من الغني المال، وينزع من الفقير الحياة.
وبفضل ذلك لم يعد أحد في المنطقة يطالب بشيء يسمى مساواة، مع سماعهم بهذا الشيء خارج الأسوار.
مع دق نواقيس الليل لبس معطفه السميك المصنوع من مزيج ريش الإوز وجلد الثعبان، الذي بُعث له من ملكة التل المقابل، والتي كانت تدعى حورية التل متصفة بالجمال والحسن في التعامل مع كل غازي.
صعد على كرسيه الخشبي المتحرك، حاملا معه جروه المتوحش في يمناه، ووسادته القطنية التي ورثها من جده الثالث عشر في إبطه الأيسر، وكذلك ساعته الرملية التي كانت تُقدّر نسبة عمره حسب ما سمعه من عرافة التل الشرقي.
استنشق الهواء المُغبّر، ذكرّه ذلك ببداية إنشاء قارته المحاطة بالتلال، أغمض عينيه للحظة مدركا اقتراب لحظة الوداع.
ملبسه للشدة لن يغير نمطا في حياته، وهو أنه إنسان، له ما له من أفراح وقد لا يغيب عن زورقه ملامسات الحزن، قد يبدو الحزن من ظاهره أُلفة وبراءة وطيبة، استغلت ونُهبت من قبل حاصدي السعادة، ولكن ما يَبقى في باطنه أشد وطئا وأبعد فكرة، وربما يكون الحزن هو الرحم الأنسب لولادة الحقد والكره.
ولن يكون هذا الأمر بمثابة ثوب البراءة لكل مغتصب.
فأن تُعيش ما عشته، وتُذيق ما ذقته من الحياة ، لن يعالج للود قضية، ولن يكون البلسم الذي يُشفي الغليل، وستظل صرخة العمر تتبعك، إلى أن تصاحبك في سباتك العميق.
بات يُبصر من مجلسه كل ما يحوله، كأنه توّاق للرحيل وفي الآن نفسه لا يكتفي من تعلقه بالبقاء.
لم يَبق في قلبه أمل استمرارية العيش، فبدأ يعّد الساعات والثواني. متمددا مسترخيا في انتظار يومه الموعود.
لآخر مرة:
ينظر إلى السياج المحاط بالقارة والشبيه لمزرعة الحيوان، استغرق بناءه عقودا من عقاب العبيد وإجبارهم على العمل .
ومزارع الحشيش التي كانت تغطي كل بقعة في القارة، وكذلك مدرسة الطغاة التي أسسها لتأهيل جيل دكتاتوري مستقبلي.
لآخر مرة يُبصر كل شيء في القارة.
وبعد كحة غريبة أدت إلى سيلان الدم من أنفه الأفطس إلى أن لاقت شفته المخروطة كمنشفة مطوية، أظهر بسمته المعتادة في كل حروبه وغزواته، وملاقاته للأعداء على روانق التلال.
معلنا بذلك انتصاره الأخير في آخر رمق.
ومع إشراقة شمس اليوم التالي أُعلن نبأ وفاة الطاغية ذو اللحية الشقراء، في فوج جمعه الملثم، محدثا عن اشتراكه في آخر عملية غدر أجريت بحق الطاغية.
وبعد مرور لحظات من إعلان النبأ اكتظ المكان بالأنين المرجف للأبدان، وإن كان لا يدري أحد بماهية الأمر حزنا كان أم ازدراء، أم أنه فرحة لميلاد حرية تحمل في جعبتها التحرر الجديد من قبضة الطغاة.
كان المشهد في ذلك اليوم كعملة تحمل وجهين.
وجه يستوليه الخائن المتغطرس، ووجه يتشارك فيه الوفي والمظلوم.
نُظر للخائن عن كثب يتوارى خلف ستار الجمهور يحتج بأنفاسه وإن لم ينطق، أين مالي الذي تكبدت فيه عناء التظلل تحت رقعة اللحية الشقراء أذهب مجهودي بذهابه؟ لا لا يمكن.
ولكن يبقى ذلك هو الخسران المبين، ولن يتجاوز مكر الثعالب أوكار الذئاب.
والوفي لا يدري ماذا يفعل؟ أيمارس تهاليل مراسم الدفن أم ينجو ببدنه من أثر الدهر الملاحق بلا توقف، والذي يكتب في طياته صفحات فارغة لم يلعب فيها أي دور إلا أنه استغل؛ في لعبة تكون قوانينها البقاء للشهرة ولا يموت فيها إلا الحمقى، ولعله يكون خائنا لشعبه وفي اللحظة نفسها وفيّ لقائده.
أما عن المظلوم حاله يرثى لها حقا، لم تتغير ملامح وجهه إثر سماع النبأ والذي كان مجرد افتراء.
بالنسبة له، لا ألومه حقا.. لأن الاستعباد والظلم يزهقان النفس.
لم تمض الساعات إلى أن أظهرت وجوها تحاول التسلط على عرش الطغيان، ونيل مبتغاها بالحكم، وأخرى مستسلمة، منتظرة أوان عهد طُغاة جديد يَخْلف ما مضى ويزيد ما فيها من أذى، ويكشف عن ساقيها الغطاء، ليدعها مكشوفة عرضة للسع حرارة الشمس الباردة.
َ
بعد لحظات من تكتلات عساكر المقبرة الصرعى، يُلاحظ من مِدخنة المقهى المجاور للمحكمة دخان أشحب على شكل لولب، يذكر مناضلي الحرية بأيام العبودية.
والفراغات المجاورة له تصنع زوايا مكعبية، تضع فيها الأطفال والنساء والعجزة، كانت الثواني تتعرج وتتأخر في كل نفخة، أيعقل يا ترى هل عاد الطاغية؟ يلفظ أحدهم
نظر الكل إلى موضع الجثة وسرعان ما يلتفتون لسماعهم الكحة التي تنطلي بالقليل من العجرفة، في قرب المقهى.
عودته للحياة ليست الإشكالية، بل مداها يتمحور بتعلق قلبه على السلطة، وهذا ما جعل من روحه كائنا لا يُفارق البلدة.
ىرضي المستضعفون بحياتهم العبودية وارتسخ الخوف في أبدانهم مرة أخرى، وكأن الطاغية شخصية خالدة.
وحال كل محتج وفَرح إلى موضعه السكوني، وما بقي في المدينة إلا الهمس.
ماشاءالله تبارك الله عليه ، موفق
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
علي حيدرا اسعد الله ايامك بكل خير وبارك الله فيك اخي
اريد فقط تشجيعك علي مواصلتك دائما وإن تكون لهذا البلد نجمة صاطعةولا ادري كيف ومالي سوى الله أن ادعوه أن يثبتك علي خطاك ويجعلك من الصالحين و الصابرين وينصرك نصر عباده العارفين
اني احبك في الله واتمنى لك كل خير وبارك الله فيك وبوالديك ورزقك الجنه ووالديك كذا جنه الفردوس أن شاء الله
والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته