
حمزة آدم نور- كاتب
#تشاد
في صباح السابع من يونيو حزيران، نهضت فضة باكراً لتجهيز كانون الشاي، كانت تجرّ نفسها جرّاً، فتاة بأنف أمازيغي رائع ونهدين ذابلين أرهقمهما الهم، تدحرجت ببطء، أشعلت النار في الفحم ريثما يجهز وذهبت إلى زريبتها الصغيرة، قبل أن تصل، تناولت إبريقاً قديماً وذهبت إلى مكانٍ لا يراها فيه أحد،
هناك، خلف التلة، رأت أعمدة من الدخان تتراقص وهي تعانق السحاب، لم تبالِ بذلك، جلست خلف شجرة السدر وهي تلملم أطراف البرنوبرنو، قضت حاجتها وعادت إلى الزريبة.
لابد للشاي أن يكون حاضراً في صباحات القرى المشرقة، كم هو مؤسف، عندما تتوسد مخاوفك وتحتضن الأماني التي تتعارض مع ميثولوجيا القرى الوارفة، تتنهد ألماً، وحيداً هناك، تلاطف الأمل وتعتصر وجعاً، إنني أخشى أن أراك حزيناً، ذلك لأنه لن ينبثق نور الهدى من بين هذه الإضطرابات الوجودية، ولن تكون أنت، سنرى ضائعاً يعيش حيوات متعددة ومملة جداً
تزوجت فضة من رجلٍ قروي لا تحبه، قصيرٌ أعرج، أصيب برمحٍ كاد أن يشلّه، كان شاعراً وصعلوقاً لا يعرف العادة ولا يؤمن بالله، يدخن سجائر الماربورو ويغار ليلاً على القوافل،
خرجت ذات مرة لتحتطب، رأت خرقةً بيضاء مليئة ببقع الدم، أقتربت أكثر، لترى رجلاً برجلٍ مكسورة، ينظر إليها مرتعباً ويشهقُ ألماً، تراجعت، تغيرت قسمات وجهها، أومئ لها بيديه طالباً المساعدة، لقد نجا من موتٍ محتوم.
من أنت؟
أنا يسكو.
من أين أتيت ولماذا أنت جريح؟
أنا من قرية الحاج مرمار، ولكن، توقفي عن طرح الأسئلة، ساعديني على الوقوف.
سأخبر والدي، أنه هناك، ليس بعيداً، سيأتي ليساعدك بشكل كامل.
لا، لا تفعلي ذلك.
ولكن..
لا، ساعديني فقط على الوقوف.
لقد نزفت كثيراً، أهذه مخالب ذئب؟
لا، هذه ليست مخالب ذئب أيتها الصغيرة، شكراً على مساعدتك، أوه؛ لا تخبري الحاج بشر بشئ.
أتعرف أبي؟
كنت قد درست عنده الموطأ
ولكنني لا أعرفك.
صحيح.
وقفت تنظر إليه بريبٍ وذهول، ذهب وهو يستند على بعضه وذهبت هي في حال سبيلها.
الموت ليس كل شيء، أيها الفاني الضعيف، أنت لست سوى إنعكاس لتذبذبات موسيقى العدم، يجب أن ترقص مع معزوفات هذه الحياة المنتشية طمعاً في قتل هيبة محاولاتك المضنية.
العاشرة ليلاً، كانت فضة تخشى الليل، هذا الهادئ المخيف، ولأنها مثقلة بالفراغ، كانت تهتم بشكل مخجل بشذرات أودنيس الآثرة، قررت أن تقرأ له كثيراً، حفظت شيئاً يسيراً من كلمات هذا العجوز الذي أحدث نقلة نوعية في مجال الشعر الحداثي، حتى أنها قررت أن تغني له، اختارت كلماته الأكثر إيلاماً وحزناً وبدأت بحفظه، كانت تدرك تماماً أن الليل وحده لم يكن كفيلاً لأخذها في أبعد نقطة ممكنة من شخصها اللاوجودي، أخلولقت سماء قريتها أن تمطر، بدأ الرعد يداعب قلبها الرهيف، وهي في خضم هذه المعركة المتصلة بإدارة الليل، أنطفأت شموع كوخها الهادئ، إن المطر ليس لطيفاً في كثير من الأحيان، سحبت لحافاً أسوداً كان يرافقها دائماً في الليالي الباردة وتغطت بشكل كامل، أنكمشت، حاولت الغناء :
“حطام الفراغ على جبهتي
يمد المدى ويُهيلُ الترابا
يُغلغل في خطواتي ظلاماً
ويمتد في ناظري سرابا”
غازل النوم جفنها، توقفت بشكل متردد، تذكرت صديقتها دكّو، ابتسمت لمواقفهما المخزية، قالت لنفسها بنبرة مليئة بالكثير من الآه، ليلٌ آخر لا يطاق.
التقت في مساء اليوم التالي بصديقتها دكّو، لقاءٌ مليئ بالكثير من المؤامرات التي تدحض فكرة ديمومة الأشياء وتقديم الأنا ضمن إطار الأبدية المرهقة، قالت وهي تقطب حاجبيها:
_إن أسهل ما تستطيع تقديمه للإنسان هو الموت، لأنني لا أستطيع أن أهب الحياة لشخص لا أطيقه.
لا تعطينا الحياة كلما نريد، ولكننا لا نحيا إلا كما نريد، ولأنه ثمة أخطاء محمودة، سأقتل هذا العربيد الأعرج.
_ لا، لن أدعك تفعلين ذلك، أضافت بخبث؛ أنا لا أتحمل زيارة السجون.
_ إنني أحمل أكبر سجن في صدري يا دكّو.
_ ولكن!
سمعن صهيل حصان بحوافره المتعبة، خرجت دكو وأسرعت الخطى لتختفي في رحم الظلام.
أعلن ماردقولي وصوله عندما همهم واقفاً وهو ينفث دخانه، قدمت له مديدة كانت قد أعدته مسبقاً، تناول قدحاً من الشاي، تجشأ، جلست أمامه وجلس هو متكئاً على وسادة قطنية، نظرت إليه مرتعبةً، تفحصت قسمات وجهه، اقتربت منه، ظنّ الرجل القروي أنها ستداعبه، أدخلت سكيناً في حلقه ليتدفق الدم ثاخناً بين أطراف يديها، أراد أن ينهض، تسلقت ظهره وأعادت السكين مجدداً، سقط أرضاً لتسقط هي متعبة خائفة.