مارس
10
القدر: نحت الروح ورحمة الخالق

كل شيء في هذه الدنيا مكتوب، والإنسان يسير بين أسطر القدر كحرف يمر على المعاني ولا يدرك أبعادها كلها، لكنه حين يرفع رأسه إلى السماء، ويرى في الظلام نجمةً واحدة، يدرك أن الظلام لم يكن إلا ستارًا على النور، وأن المصائب لم تكن إلا ضربات فأسٍ تنحت روحه ليكتمل الشكل الذي أراده الله له.  الإنسان […]

مارس
09
تأملات في سن الأربعين

“لقد علمتني الحياة أن أنتظر أن أعي لعبة الزمن دون أن أتنازل عن عمق ما استحصدت. قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتماً، طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية… أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات”. محمد شكري حري بالإنسان أن يقف عند محطات […]

مارس
04
النعيم يبدأ من القلب

الحياة قاسية… هكذا تبدو للعابثين من معتقداتهم السلبية: “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاء ينعم.” السؤال أبواب النعيم لا تفتحها الصلوات الخمس والصيام فقط، تلك هي حقوق الله! ستجد أولئك متوكلون على الله وهم أشقياء، والنعيم يعبر من خلالهم وأشقياء، إنجازاتهم بلا روح حياة. أن تنجز شيئًا وأن تعيش شيئًا آخر، وماذا لو اجتمع […]

فبراير
28
التسامح

التسامح من القيم الإنسانية الأساسية التي تسهم في تحقيق السلام والتعايش السلمي بين الأفراد والمجتمعات، فهو نمط من أنماط الاحترام والتقدير للآخرين، ففي هذه الحياة كلنا ضيوف عابرون، لا تحقد ولا تحسد ولا تشتم ولا تظلم أحداً، ربما تجد من يسيء إليك بتصرفه أو بالأحرى، فسامحه واترك أمره للذي خلقك، فسامح كل من أساء إليك، […]

فبراير
23
زائر ثقيل

ربما تراني بمشاعر صادقة يخالطها شيء من الألم. أطرق بابك محمَّلًا بشلال من الدمع، أروي به وجنتيك اللتين أنهكهما الجفاف، وأترك خلفي أثرًا من الملح والمرارة. أحيط عينيك بهالة داكنة، كتوقيع للسهر الذي بات رفيقك، وللإرهاق الذي افترس ملامحك بأنيابه. أنا الزائر الذي لا يستأذن، أهبط فجأة كظل ثقيل، وأهمس لك بحكايا الليل الطويل. أعانق […]

فبراير
23
تكهنات لما بعد الحرب

بعد الحرب، قد تتغير الخيارات، وتتبدل القناعات، وتتحول الانتماءات. هذا التحول ليس خذلانًا لمن عرفتَهم أو أحببتَهم أو كنتَ قريبًا منهم في الماضي، بل هو نتيجة طبيعية للحرب التي تعصف بكل شيء، فتُغيّر معالم كثيرة في حياة كل فرد منا. وربما تجد نفسك مضطرًا للتخلي عمن تحب، لا جفاءً ولا نكرانًا، بل من أجل المضي […]

فبراير
22
الضوء وصاحبه

  لَا شَكَّ لِي بِغَدٍ جِيلٌ سَيَذْكُرُهُ  فَوْقَ الشَّرَايِينِ وَالتَّارِيخُ يَكْتُبُهُ  ضَوْءٌ تَبَلَّجَ نَهْرًا تَحْتَ إِمْرَتِهِ  وَمَدَّ طَاقَةَ شَمْسِ الْكَوْنِ بَهْجَتُهُ  فِي غَابَةِ الصَّبْرِ بَاتَ اللَّيْثُ مُنْفَرِدًا  لَكِنَّهُ كَلِمَةُ الْهَادِي تُؤَنِّسُهُ  مَهْمَا يَمُرُّ عَلَى النِّيرَانِ حَافِيَةً  وَالْقَلْبُ فِي مَلَإِ الْأَعْلَى سَيَحْفَظُهُ  لَا شَيْءَ يُعْجِبُهُ لَا شَيْءَ يُحْزِنُهُ  لَا شَيْءَ يُوقِفُهُ لَا شَيْءَ يُفْسِدُهُ  كَمْ غَاصَ […]

فبراير
22
الخدمة بين الماضي والحاضر

إن خدمة الأمة، بكل ما تحمله من جلالة وشرف، ليست أمرًا هينًا، بل تتطلب جهدًا وإخلاصًا. فالبعض لا يتحملون مشقة الجد والاجتهاد، ولا يرغبون في خدمة غيرهم. ومع ذلك، فإن كتب التاريخ مليئة بأسماء من خدموا أمتهم، فخلدهم التاريخ وأشاد بهم. أخي، لو تأملت أحداث التاريخ، واستعرضت شخصياته البارزة، واستفدت من دروسه، لاتفقت معي على […]



“لقد علمتني الحياة أن أنتظر أن أعي لعبة الزمن دون أن أتنازل عن عمق ما استحصدت. قل كلمتك قبل أن تموت، فإنها ستعرف حتماً، طريقها. لا يهم ما ستؤول إليه، الأهم هو أن تشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية… أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات”. محمد شكري

حري بالإنسان أن يقف عند محطات معينة من عمره، سيما إن كان فيها ما يستوجب الوقوف. صاحبكم وصل السن الذي يطلق عليه (سن الرشد). بلوغ سن الأربعين علامة فارقة في عمر الإنسان، تجعله يقف مع نفسه وقفات صادقة. فيه يكون اشتداد العقل وقوة الجسم وتحمل المسؤولية، ورؤية الأمور بمنظار العقل. من يرى الحياة من الأربعين غير الذي يراه من العشرين. هكذا، كلما زاد عمر المرء بان له من نور البصيرة ما لا يظهر لمن هو دونه، وترتيب الأولويات في العمل. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من أتى عليه أربعون سنة فلم يغلب خيره شره، فليتجهز إلى النار).

في قول الله عز وجل: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)، بعد أن ذكر ابن كثير جملة من أقوال العلماء، نقل عن مسروق قوله: (إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره). وذكر ابن عباس: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم أربعون سنة. ذكر القرطبي في تفسيره قال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا ويخالطون الناس حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس. فهذا الاعتزال الذي يعني به ليس هو الاعتزال الكامل، وإنما هو فضول الكلام والمجالس والنقاشات التي لا طائل وراءها.

هذه ليست ورقة اعتراف بأخطاء الماضي ولا البوح بمشروع المستقبل، ولا مرافعة ولا مقالة منظمة ولا حتى خاطرة، وإنما هي هموم نفسية وفكرية يبوح بها لمن قاربوا سنه أو تجاوزوها قليلاً، علهم يجدوا فيها بعضهم أو كلهم. أحياناً تأتيه لحظة يقول فيها صاحبكم: كيف يرحل إلى الله قلب مكبل بشهواته؟ وكيف يدخل على الله وهو متشح بثياب المعصية ولم ينظف جسمه من جنابة غفلاته؟ ويتعجب من حاله حين يرى حال السلف الصالح الذين ضربوا أروع الأمثلة للعبادة والاستعداد لما خلقوا له. يُحكى عن صفوان بن سُلَيم: لو قيل له: غداً القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة والذكر.

سفيان الثوري: لو رأيت منصور بن المعتمر، لقلت: يموت الساعة. بعيداً عن البحث عن دليل نتكئ عليه غير القرآن الكريم، لنستلهم منه العبرة من أن نقوم بالواجب في الأربعين. قال الله تعالى في سورة الأحقاف: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).

واجبات لمن بلغ الأربعين:
1. صدق الالتجاء إلى الله: الكثير من الناس يتعبدون الله بعبادة العادة والاعتياد (صلاة وصياماً وحجاً وزكاة ودعاء… إلخ) اعتياداً. فالتعبد الصادق هو الذي يجمع فيه الإنسان قلبه ويستعد فيها للرحيل. ولهذا يشير القرآن الكريم دائماً إلى إحسان العمل: (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا). فالرب هو المعبود، ووحدانية الله تقتضي الالتزام بأمره ونهيه.
2. الشكر بالقلب واللسان والعمل.
3. الشكر على نعمة وجود الأصل في حياتك (الوالد والوالدة): ربما لا يفهم هذا إلا من فقدهما.
4. الإعانة على العمل الذي يرضي الله في الآخرة: وهو العمل الصالح الذي لا يتحقق إلا بشرطين: إخلاص القصد فيه، وأن يكون موافقاً لما جاء به النبي من عند الله. هذا العمل الذي يرضي الله.
5. صلاح الذرية: فصلاح الذرية أهم من طلب الذرية. قد يرزقك الله الولد فيبتليك الله به. ففي دعاء زكريا عليه السلام قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً). دلت هذه الآية على أن الإنسان لا يطلب مطلق الذرية، لأن الذرية قد يكون نكداً وفتنة، وإنما يسأل الذرية الطيبة.
6. التوبة والاستغفار الدائم: لأن الإنسان في هذا العمر المنتصف لا بد له من أعمال تجب ما اقترفه في صباه، كي يستغفر الله من ذنوبه. فمفهوم التوبة عنده هو محاولة التغيير الإيجابي بشكل دائم ومتكرر، كيلا تتعلق به أدران الشهوات والشبهات.
7. الإسلام من جديد: ربما يستغرب الإنسان من تجديد الإسلام. ذكر ابن القيم الجوزية في “مدارج السالكين” عبارة جميلة عن شيخه تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: إذا مدحه أحد في مجلس قال: (والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمت بعد إسلاماً جيداً).

غبار السنين:

ربما جيل منتصف الثمانينات كأمثالي عاش مجموعة من المنعطفات التاريخية، سواء على المستوى المحلي أو على مستوى العمر أحياناً، والمستوى الثقافي لا يسعف بالمشاركة والحضور. الإطاحة بحسين هبري، والمؤتمر الوطني المستقل، والاستفتاء على الدستور 1996م، والانتخابات الرئاسية والتشريعية في العام نفسه، وغيرها من الأحداث. صاحبكم بدأ تعليمه في خلوة بلال بن رباح قرب سوق العافية المعروف بمسجد جماعة الدعوة والتبليغ، وتأثر بهم وخرج معهم في وقت كان أقرانه يعتبرون جماعة الدعوة والتبليغ أقرب في ممارساتهم إلى البدع والخرافات. رغم صغر سنه آنذاك، إلا أنه يأبى إلا الجلوس مع الكبار سناً وعلماً. درس القرآن وحفظه خلال أربعة أعوام. ففي عامه الأخير في الخلوة، التحق مع زميله أبو هريرة أحمد بمدرسة الإرشاد للتأهيل، فترشحا معاً للشهادة الإعدادية. وأثناءها، وقبلها وبعدها، كان يتردد على الحلقات العلمية، ولم يسمع عن شيخ متمكن إلا وحضر له درساً أو محاضرة أو ندوة، رغم صغر وقلة بضاعته آنذاك. ولم يبهره إلا الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الرحمة، والشيخ صالح بن هارون. وكان الأول في ذلك الوقت ملء السمع والبصر، فأراد أن يقترب منه وينهل من علمه ويصاحبه في حله وترحاله. صاحبه في رحلات متعددة، وكان الشيخ يحبه جداً. ويذكر من المواقف التي لا ينساها في مسجد الدعوة في مندو، في درس الصبح، سأل الحضور عن دليل الإجماع من السنة، فعجز الجميع عن الجواب، فأجابه صاحبكم بدليل: (لا تجتمع أمتي على ضلالة)، فأكبره وأعلى من شأنه في ذلك المجلس. كان صاحبكم يومها مولعاً ومهتماً بقضية (ما رأيك في فلان والجماعة الفلانية)، فوجد ضالته في الشيخ عبد الرحمن الذي كان متأثراً بهذا الفكر قبل أن يذهب إلى بيت أبي سفيان. فعاش ثلاثة أعوام بين طلب الحديث رواية ودراية، وبين “يا شيخنا ما قولك في فلان وعلان”، ظناً منه أن هذا دين يدين الله به، مستأنساً بأقوال العلماء الذين لم يفهم مقاصدهم يومها بالمفهوم الصحيح. وكان يومها يبغض القرضاوي وسلمان العودة تديناً، ويحب ابن باز وابن عثيمين جداً، حيث قرأ كتاب شيخه “الإنجاز” في ترجمة الإمام ابن باز ربما أكثر من عشرين مرة. ورأى في قناة الجزيرة شيخاً يسمى الشيخ يوسف القرضاوي في برنامج “الشريعة والحياة”، فأبغضه في الله رغم أنه لا يعرف سبب بغضه، لأنه سمع يوماً شيخه يقول: هناك ملتقى يسمى ملتقى يوسف القرضاوي محبيه وتلاميذه، أراد المنظمون أن يقدموا لي دعوة فقلت لهم: لست من تلاميذ القرضاوي ولا من محبيه. ففهم من هذا مفهوم المخالفة، وكان يومها يقرأ علم أصول الفقه ويطبقها بهذه الطريقة. مادام أن الشيخ ليس من محبيه، بمعنى من مبغضيه، فأبغضه تبعاً له. ثم اهتم بعلم الحديث اهتماماً بالغاً، وبالذات علم رواية الحديث، فأجازه شيخه ببعض رواياته إجازة عامة. وكان لا يحب الفقه، ويرى فيه ما يراه أهل الحديث في باكستان للمذهب الحنفي، ولكنه يحضر دروس الحديث والتفسير وعلوم الآلة. ثم التحق بالمدرسة النظامية بعد أن حصل على الإعدادية من ثانوية الجيل الصاعد. فدرس سنة في المركز الكويتي، فتعرف خلال هذه الفترة على زميله محمود شريف، فكانت الاهتمامات حينها متقاربة. فقصة الصداقة بدأت في الطابور الصباحي، تم تكليف صاحبكم بإلقاء الحديث النبوي، فتوسط الطلاب وسرد الحديث بسنده من صحيح البخاري، فاقترب منه ذلك الزميل فتعارفا حينها بصداقة امتدت ربع قرن من الزمن. نعم، الزميل والأخ والصديق، هذه الصداقة تحولت إلى مصاهرة بعد ستة أعوام من التواصل شبه يومي، فأصبح خالاً لأولاده. من النعيم المعجل للشخص أن تصاحب من يفهمه ويفهمك بلغة الإشارة، وتدرس معه نفس التخصص (التاريخ). فترة الجامعة لم تمر بالتشبث بالتخصص والمادة، وكان صاحبكم يتردد على المكتبة مع زميله. أتذكر هو مولع بكتب الحديث والرسائل الجامعية، وزميله كان يقرأ للطنطاوي والأدب والحديث. وكان ذلك الوقت نرتاد المكتبات: المنى، والمركز الليبي، ودار السعادة، ومكتبة الدكتور يحيى، ومكتبة الكتبي محمد عيسى، ومكتبة الشيخ أبكر يوسف هارون شيخنا الذي نجد عنده ما لا نجد عند غيره: الأكل والشاي والكتب. وكان منذ ذلك الحين زميله محمود مولعاً بالشعر، فعندي له ديوان شعري كامل يسمى “المنهل الصافي”، دونه قبل أن يتعرف على قوانين الخليل بن أحمد الفراهيدي، فلما عرفه رماه عندي، وما زال المخطوط في مكتبة صاحبكم. وله أيضاً شرح على حائية ابن أبي داود، قرظه له المهندس محمد نور قجه.

قبيل تخرجه من الجامعة، تفتحت أمام صاحبكم معارف أخرى، حيث أعاد النظر في علاقته مع سلمان العودة ويوسف القرضاوي ودعاة الصحوة بشكل عام. فقرأ حينها مقالات مجلة البيان والفرقان والمجتمع، وموقع إسلام اليوم، فيذهب إلى مقهى الإنترنت قرب السوق الكبير (هاي تك) ومركز الغد كي يقرأ المقالات والصحف عبرها، فيعرف فيها وينكر، لأنه تربى على السلفية الصرفة التي لا تقبل الآخر. فأكب على كتب ورسائل الشيخ سلمان العودة في ترشيد الصحوة (كيف نختلف، وشكراً أيها الأعداء، ومع الأئمة)، ومقالاته عن التعايش وعن قبول الآخر. أثناء ذلك، اندلعت ثورات الربيع العربي، فأخذته نشوة الحرية والديمقراطية والحريات العامة، فبدأ الناس يصنفونه وزملاءه ويرمونه بما فيهم وما ليس فيهم، لأن البيئة التي نشأ وترعرع فيها لا تقبل من المفاهيم والآراء إلا ما كان على منوالهم ومنهجهم. فكان صاحبكم وزملاؤه طرحوا طرحاً أجنبياً على الوسط العلمي الموجود، فكان الطرح للأمانة فيه كثير من الجرأة وفقدان التوازن، ومحاولة حمل الناس على رأي بين عشية وضحاها. فكان يطرح مفاهيم فيها من الصواب ما يستفز، وفيها من الخطأ ما يعري. فبدأ الناس يحذرون منه ومن طرحه، وحتى العلماء لم يقصروا في التحذير منه ومن فكره في مجالس خاصة وعامة، وأخذ هو وصاحباه أبو العالية رحمه الله ومحمود نصيباً من التشهير بهم وتحذير الشباب من أفكارهم ورؤاهم. وهم كذلك لم يقصروا في بث المفاهيم التي يرونها صواباً، والنقد البناء وغير البناء لخصومهم. ثم انفتح صاحبكم على الخارج، والفضل في هذا يرجع إلى تسلمه منظمة النهضة الشبابية التشادية التي أضافت له الكثير في العلاقات الداخلية والخارجية، واستفاد منها كثيراً، وسرقت منه الكثير من الوقت والأصدقاء الذين صنفوا المؤسسة وصنفوا معها رئيسها. أتذكر أن معظمهم كانوا يتوارون عن إلقاء السلام عليه تديناً. وصاحبكم كان يجتمع بثلة مباركة كل أسبوع ويتدارسون المعرفة والفكر، علاوة على أنه يقدس العلم جداً. في أول رحلة له خارج تشاد كانت عام 2013م، رحلة إلى بيت الله الحرام، فكان لها وقع ومشاعر جميلة جداً، لا يعرف ما إذا كان فرح بالسفر أم الحج، في كلا الحالتين شعور لا يوصف. حينها حبب إلى نفسه السفر، وبعدها سافر إلى كثير من الدول (السعودية، تركيا، السودان، المغرب، تونس، مصر، قطر)، سواء لحضور مؤتمرات أو لقاءات علمية أو تجارية. فعشق التجربة (الأسفار)، والتقى أثناءها بعلماء كثر لا يحصيهم العد. فكان ممن تعرف عليهم الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو، هذا الرجل رؤيته تذكر المرء بالله وبعلماء السلف الراسخين في العلم والتزكية. جالسه وسمع منه وتواصل معه مرات، فهو يرى من نعم الله على أهل هذا الزمن. وممن عاصرهم واستفاد من كتبه ولم يلتق به الشيخ القرضاوي، هذا العالم الرباني الذي ظلمه أهل زمانه، فرماه الكثيرون بقوس واحد، ولم يقدروا قدره ولا عرفوا جهاده واجتهاده ومواقفه وكتبه ومقارعته للظلم والطغاة زهاء ثمانين عاماً، وهو مطارد وممنوع من الدخول في كثير من الدول لمواقفه النبيلة.

لو:

1. لو كان بداية طلبه للعلم بمنهجية واضحة وممرحلة كي يصعد بها إلى عالم المعرفة. فصاحبكم كان يقرأ بدون منهجية ولا انتظام ولا سلم معرفي موجود مثل أبناء جيله. فجيله تعلم على أنصاف طلبة العلم الذين درسوا على طريقة علماء بلده: حضور درس في الفقه هنا، وحديث مع شيخ آخر، وهكذا…
2. لو اجتهد في طلب الرزق الحلال في عمل يستطيع به الموازنة بين العلم وطلب الرزق، وإن كان هذا مستعصياً أحياناً.
3. لو وضع منهاجاً واضحاً للأفكار التي يؤمن بها ويؤصلها تأصيلاً يعي متطلبات المرحلة، كي يكون لبنة لأبناء جيله. وهذا مشروع يتماشى مع سن ما بعد الأربعين، يمكن استدراكه والعمل عليه.

أما بعد:

هنا ربما نهاية مرحلة وبداية مرحلة تتطلب قدراً من المسؤولية تجاه أمته ونفسه ومشاريعه.

تجاوز الخصومة:

في سن الأربعين أصبحت الخصومات لديه ضباباً عابراً وهواءً زائلاً. لا يغريه المدح العابر وإن كان يستأنس به لحظة، ولا يستفزه النقد وإن كان يشعر بمرارة خفيفة. عكس السنوات الغابرة، حيث لا يهدأ أياماً لأجل أن فلاناً انتقده في مجلس أو استفزه في الفيس بوك أو شهر به لرأي رآه. قبل بلوغه سن الأربعين، جلس يوماً بينه وبين ربه كي يعرف خصومه السابقين، فعفى عن الجميع إلا رجلين، والآن يجهد نفسه للعفو وما استطاع حتى اللحظة.

الرجل بمواقفه لا بعمامته:

من المواقف التي لا يندم عليها وينميها دائماً موقفه الثابت من قضية فلسطين. ولا زال يقول بأنها قضيته الأساسية، لأنه يرى أن القدس والأقصى البوصلة التي يوزن بها الرجل. فكان السلف في بعض الأزمات يربطون الحق بالرجال، فمثلاً في المحنة كان الناس يربطون الحق بالإمام أحمد، وأحياناً يقولون فلان سنة كي يوجهوا الناس إلى رجل وقف مع الحق في لحظة كان الناس بأمس الحاجة إلى القدوات. ولهذا البوصلة التي يوزن بها في واقعنا موقف الشخص من هذه القضية نصرة وخذلاناً. وما جعل الله القبلة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.

الأولويات:

يريد أن يرتب أوراق الماضي كي يوجه البوصلة إلى مشاريع جديدة. ربما أوحى له الأربعين بأن القطار سريع، وما بقي من العمر أقل مما مضى، فلا بد أن نعد لهذا العمر مشروعاً، وأن يكون التركيز عليه هو الأول. مشروع ينقذ هذا الجيل من التفاهة والفوضى، لأن مرحلة الطلب والكسب تكاد تحط رحالها، ليبدأ عمر العطاء مع قلة الزاد وبعد السفر. فالأولوية عنده في هذه المرحلة مصدر رزق ثابت، يقي به نفسه من أن ينجر مع الموجة التي عصفت بكثير من أقرانه وزملائه، طلباً للمناصب والمكاسب والمغانم. إضافة إلى هذا، إكمال مجموعة من المشاريع العلمية ذات العلاقة بالتخصص وغير التخصص. علاوة على ذلك، تحصين البعد الروحي وذلك بالتزود من التقوى الذي هو خير زاد، تأسياً بمقولة ابن عباس رضي الله عنهما: (من بلغ الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار). وذلك بالارتباط بالوحيين: قراءة وتدبراً وعملاً، وتعزيز الجانب الأخلاقي، وكسب الناس بدلاً من خسارتهم، والعفو عنهم وتجاوز هفواتهم بدلاً من تتبعهم، واحترام الكبار من العلماء والوجهاء.

وأخيراً… نسأل الله أن ينفع الكاتب قبل القارئ بهذه الورقة، وأن يعفو عن ماضي عبده الذي بلغ الأربعين ويقرع باب الخمسين، وأن يصلح ما بقي من عمره.
بقلم/ علي بشر آدم

By khalid

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *