
لعل أعظم مأساة وجودية نعيشها هي إدراكنا لفناء كل شيء من حولنا.
لم يكن ريلكه، وهو يراقب جمال الحديقة، وحيدًا في إحساسه بمدى هشاشة هذه الحياة وجمالها العابر. الشاعر مارسيل بروست، الذي أمضى حياته يبحث عن الزمن المفقود، كان كذلك يشعر بهذا الثقل المأساوي؛ لقد أدرك بروست أن كل لحظة نعيشها هي لحظة في طريقها إلى الزوال، وكل جمال نشهده لا يبقى سوى طيف، نشتاق إليه منذ أن نعيشه، وكأننا ندرك في أعماقنا أنها لن تتكرر.
في إحدى لحظاته، كان بروست يحتسي شاياً مع كعكة صغيرة، كعكة “المادلين” الشهيرة، وعندما لامست شفتاه طعمها، أعادت إليه طعم الطفولة الضائعة، بساتين الربيع التي تركها خلفه، ووجه والدته، وكل تفاصيل حياته السابقة.
في تلك اللحظة، فهم أن الحنين ليس مجرد ذكرى، بل هو محاولة يائسة من الروح لاحتضان لحظات الفرح التي انقضت، رغبة في إحياء لحظات ندرك تمامًا أنها لن تعود.
كان يعلم أن كل لحظة حاضرة هي زوال بحد ذاتها، لحظة تحتضر ونحن نعيشها، وكل ما نستطيع فعله هو محاولة الإمساك بها.
يقول بروست: “أحاول الإمساك باللحظة الهاربة، لكني أكتشف أني أعيش اللحظة فقط حين أدرك أنها قد فاتت.”
وهذا لعمري هو الحزن الكبير الذي نحمله في أعماقنا؛ إننا نعرف أننا نعيش لحظات مميزة، لحظات نحب فيها، نتعانق فيها، نضحك، لكننا في الوقت ذاته نرى زوالها يلوح في الأفق.
نشعر أن حبنا، وسعادتنا، وحتى أحلامنا ليست سوى سراب، مجرد ذكرياتٍ سنحتفظ بها كأطياف باهتة نحاول إحياءها كلما مر بنا طيف الحنين.
ربما لهذا نشعر بشيء من الحزن عندما نحب بعمق، ونبلغ النشوة في الأشياء الجميلة؛ لأننا نعرف أننا نرى “الاستثناء”، نلمح لمحة لما وراء الأبواب المغلقة، لكن هذه اللمحة تأتي مع إدراك مؤلم بأنها لن تدوم. وهذا هو سرّ التوتر الأبدي بين الفرح والحزن، بين النشوة والكآبة.
كل لحظة جميلة نحياها تحمل في طياتها بذرة حزن لأننا نعلم أننا سنفقدها، ولا يمكننا إلا محاولة تذكرها، استعادتها في قلوبنا لعلها تبقى نابضة للحظات أخرى، حتى وإن كانت كطيف بعيد.
نواجه هذا الفناء بطرق شتى: نتحدى الزمن بالكلمات التي نكتبها، والقصص التي نسردها، والأفلام التي نشاهدها، وكأننا نحاول تثبيت هذه اللحظات، أن نقول لأنفسنا وللعالم: “لن أدعك تذهب، لن أقبل بزوالك.” إنَّنا نحاول تخليد اللحظة، مدفوعين بذاك الحزن العميق الذي يحرك قلوبنا، ذلك الحزن الذي يجعلنا نتمسك بأحبائنا وأحلامنا بعمق أكبر، علّنا نتغلب على هذا القدر ولو للحظة.
وربما، في نهاية المطاف، لا نملك سوى المحاولة، المحاولة التي تعرف أن الهزيمة حتمية، لكنها لا تتوقف عن التشبث بكل ذكرى، بكل طيف، بكل ابتسامة عابرة.
ربيع إسماعيل
1fu7nq